يقال عن الشاعر البليغ إنه هو الشاعر الذي نعرفه من كلامه، وإن لم يقصد إلى تعريفنا بسيرته وترجمة حياته؛ لأنه يصف لنا شعوره بما حوله من الأحياء وسائر الأشياء.
ومتى عرفنا من كلامه ما يحب وما يكره، وما يرتضيه وما ينكره؛ وما يحرك طبعه وفكره، أو يمر بهما في غير اكتراث، فقد بدت لنا حقيقـته جلية سافرة، وكان لسان الحال فيها بحق أصدق من لسان المقال.
واللغة على عمومها أولى أن يقال فيها هذا الذي يقال عن الشاعر البليغ؛ لأن اللغة هي قوام التعبير الناطق بين جميع المتكلمين بها، فإن لم نتعرف منها حقائق أحوالهم فما هي بأداة وافية بوسائل التعريف.
فليس من الغلو في وصف اللغة المعبرة أن يقال إنك تضع معجمها بين يديك فكأنما قد وضعت أمامك قواعد تاريخها، ومعالم بيئتها، ولم تدع لمراجع التاريخ والجغرافية غير تفصيلات الأسماء والأيام.
واللغة العربية في طليعة اللغات المعبرة بين لغات العالم الشرقية أو الغربية، فلا يعرف علماء اللغات لغة قوم تتراءى لنا صفاتهم وصفات أوطانهم من كلماتهم وألفاظهم كما تتراءى لنا أطوار المجتمع العربي من مادة ألفاظه ومفرداته في أسلوب الواقع وأسلوب المجاز.
ونبدأ بالمجتمع نفسه، فنعلم أن المجتمع العربي في قوامه الأصيل إنما كان مجتمع رحلة ومرعى، وأن الكلمات التي تدل على معنى الجماعة في لسان العرب قلما تخلو من الإشارة إلى الرحلة والرعاية.
فالأمة هي الجماعة التي تؤم مكانا واحدا، أو تأتم بقيادة واحدة.
والشعب هو الجماعة التي تتخذ لها شعبة واحدة من الطريق.
والطائفة هي الجماعة التي تطوف معا.
والقبيلة هي الجماعة التي تسير إلى قبلة مشتركة.
والفصيلة هي الجماعة التي تنفصل معا .
والفرقة هي الجماعة التي تفارق في مسلك واحد.
والفئة هي الجماعة التي تفئ إلى ظل واحد.
والجيل من الناس هم الذين يشتركون في مجال واحد.
والبيئة هي الموطن الذي يبوء إليه أصحابه بعد الرحلة عنه.
والنفر من القوم من ينفرون معا للقتال أو لغيره.
والقوم في جملتهم هم الذين يقومون قومة واحدة للقتال خاصة، ولهذا أطلقت أولا على الرجال ثم شملت الرجال والنساء،ومن هنا قوله تعالى(ولا نساء من نساء) بعد قوله( لا يسخر قوم من قوم)..
ومنه قول زهير:
وما أدري ولست أخال أدري أقَومٌ آل حصن أم نساء
وإذا لاحظنا هنا المعنى في دلالة أسماء الأمكنة فهي دلالة مطردة على هذا المثال في أكثر البقاع التي تسكن أو يرحل منها وإليها...
فالمنزل حيث ينزل الإنسان.
والبيت حيت يبيت بالليل.
وكذلك الموقع، والمرجع، والمأوى.
وكذلك المسافة بين مكان ومكان؛ إنما هي الموضع الذي يساف[يشم] تُرابه للاهتداء إلى الطريق.
وقد يدل اسم المكان بمادته على عيشة المشاع في البادية الأولى، فيطلق اسم "القصر" على المكان الذي يبنى مقصورا على بانيه ، خلافا للبيوت والخيام التي تقام في كل مكان.
واسم المكان قبل كل شيء ما معناه؟ معناه من " التمكن" خلافا للنقلة والمتنقل بغير استقرار
ويلاحظ هذا أيضا في الكلمات التي تدل على العشير، أو على الرابطة الاجتماعية بين الآحاد.
فالصاحب هو من يمشي معك في السفر، وكذلك الرفيق الذي يؤخذ مع الطريق وقبل الطريق، وكذلك الزميل من صُحْبَته الزاملة-الراوية-، والقريب الذي يقترب من منزلك،وتناسبه كلمة "العدو" للخصم الذي يعدوك ويعدو على جوارك.
ونتتبع هذا المعنى أو نتقراه في المعاني المجازية، فنقول : المذهب للطريقة الفكرية، كما نقول المنهج، والمشرب، والنحو، والمصدر،والمورد، والمقام، والمقامة، ونطلق السيرة على الترجمة وهي من سار يسير، ونطلق القصة على الحكاية ،وهي من قص الأثر، ونطلق الأثر على المخلفات ؛وهي من بقايا المواطئ والأقدام
وقد قلنا :نتتبع ،ونتقرى، وقلنا المجاز، وكلها مما لوحظت فيه هذه الدلالة في أصولها
فالتتبع من السير وراء الراحل، والتقري من البحث عنه حيث كان مقره، والمجاز من العبور. وما التعبير نفسه في أصوله؟ هو العبور.
ولابد من مناسبة قريبة أو بعيدة تنتهي إلى هذه الدلالة في الألفاظ المعبرة عن الجماعات والأمكنة.
فنحن نقول "الجيش" من جيشان الحركة في الأمكنة المتعددة أو المكان الواحد
ونقول"الجند" والراجح أن الأصل فيه يرجع إلى "الجند" وهي الأرض الغليظة التي لا يسهل طروقها، كأنهم استعاروه لمناعة المكان الذي يحميه المقاتلون المسلحون، أو المستعدون للقتال.
ونعتقد أن النظر إلى ألفاظ اللغة من هذه الناحية متمم لكل دراسة من دراساتها، سواء منها ما يراد للتاريخ، أو لتحقيق أصالة الكلمات، أو لتقرير قواعد " البلاغة"... وهي كذلك من التبليغ أو البلوغ إلى المكان.
فإذا التبس علينا أمر كلمة من الكلمات، فلم نعلم في ظاهر الأمر أهي من ألفاظ العرب الأصيلة أم من الدخيل عليها، فلدينا هذا المقياس الحاضر، نقيس به دلالة الكلمة ، ونردها إلى حياة العرب؛ وإلى المعهود من تعبيرها عن معالم تلك الحياة، فلا يطول بنا العناء في الرجوع بها إلى أصل معقول نطمئن إليه.
قيل –مثلا- إن كلمة "القلم" مأخوذة من "كلموس" اليونانية،وعز الاستناد في هذا القول إلى مرجع من مراجع التاريخ المحقق غير مجرد الظن القائم على التشابه في مخارج اللفظين، وهو لا يدل على السابق إلى وضع الكلمة من اللغتين.
ولكننا نستطيع أن نرد الكلمة إلى القلم أو التقليم، من القلامة، في اللغة العربية، فنرى أنها أصيلة في هذه اللغة بهذا المعنى،ونتقصى المادة فنعلم أنها لا تنقل بجملتها من لغة إلى لغة.
فمادة القاف والميم وما يتوسطهما مطردة في الدلالة على الشق والقطع، ومنها قحم؛ وقرم؛ وقسم؛ وقصم؛ وقضم؛وقطم؛ وقلم، وهي آخرها في ترتيب الأبجدية.
ونعود إلى الشيء الذي"يقلم" فنعلم أن القناة،والقصبة، والريشة، مما يقلمه العرب ويتخذون منه القلامات،فيحق لنا أن نفهم أننا بصدد هذه الكلمة أمام لفظ أصيل في لغة العرب، لا ينقلونه من لفظ آخر في لغة أجنبية.
وأذكر أن طبيبا فاضلا لقيني في الإ سكندرية فأخذ علي بعض ما كتبت يومئذ عن القانون أن كلمة "القانون "دخيلة " في العربية، وأن "الشريعة"
أحق منها بالاستعمال في كتابتنا مادامت نظائرها ميسورة لدينا.
قلت للطبيب الفاضل: إن الكلمة من بضاعتنا التي ردت إلينا، وان القانون اليونانية ليست هي إلا القناة بصيغة التصغير عندهم؛ لأن الغالب في لغتهم على معنى القانون أنه مستعار من القصبة التي توضع بها الحدود، وتقاس بها المواقع،وهم يطلقون في اللغات الغربية كلمة رولر Ruler على المسطرة التي ترسم الخطوط والحدود وعلى الحاكم الذي يقيم الأحكام،ونحن في الشرق نستخدم القصبة للقياس والفصل بين المواقع، وتسمى عاصمة الحكم "قصبة" في بعض اللهجات.
فالقانون canon تصغير للقناةcane لأن القناة الصغيرة هي التي تستخدم عندهم استخدام المسطرة لوضع الحدود؛ والفصل بين الرسوم، وإذا رجعنا إلى القناة أمكن أن نقول إن القانون هو" قناتنا" قد رجعت إلينا بعد أن صيغت عندهم في صيغة التصغير، ولسنا نجزم بأن كلمة cane مأخوذة من العربية بغير خلاف ، ولكننا نجزم بأن "القناة" كلمة لم يأخذها العرب من اليونان، لأن الأقنية من النخل ومن عيدان الشجر، ومن مسايل الماء، ومن أسنة الرماح أصول عريقة في حياة العرب لا تستعار.
وإن من انفع ما تنفعنا به هذه المقارنة أن نعول عليها حين تتشابه الكلمات باللفظ،أو تتقارب بالمخارج بين لغتين أو لغات عدة. فإن لم نستطع أن نعرف أيهما أسبق إلى وضع الكلمة فلعلنا مستطيعون أن نعرف أنها أصيلة أو مستعارة في لغتها بالمقابلة بين تعبيراتها وأحوال معيشتها.
وقد كان زميلنا العالم المجتهد الأستاذ عبد القادر المغربي ؛ يرى أن كلمة المرج في العربية مأخوذة من كلمة "المرغ" الفارسية، فكان مما يشككنا في هذا الظن أن مادة "مرج" و"مرغ" و"مرت" في اللغة العربية متقاربة في مدلولها، وأنها على صلة بالمرع؛ وبالمرعى، على قدم الحاجة إلى المرعى في بلاد العرب، فإن لم نستطع أن نجزم باستعارة الفرس كلمتهم " المرغ" من العرب ففي وسعنا أن نجزم بأن العرب أصلاء في كلماتهم غير مستعيرين.
وهناك كلمات تتشابه في مخارجها بين أبعد اللغات؛ لأنها قد نِشأت من الحكاية الصوتية التي تنقل الأصوات كما تقع في الآذان، وقد نفهم من تكرار المادة في أمثال هذه الألفاظ أنها نشأت في اللغة؛ ولم تنقل إليها بعد تداولها في لغة أخرى.
ففي الإنجليزية يدل لفظ "كت" على القطع ؛ كما يدل عليه لفظ "كسيه" باللغة الفرنسية، والمشابهة بين اللفظين وبين "القط" بهذا المعنى في اللغة العربية ظاهرة للسماع.
ولكن القاف والطاء وما يثلثهما في لغتنا شائعة في الدلالة على القطع بأنواعه، ومنها قطب، وقطر،وقطف،وقطم.
ويلحق بهذه الملاحظة أن القاف والتاء؛ والقاف والدال؛ والقاف والصاد، تؤدي معنى قريبا من هذا المعنى، فلا وجه للقول بالاستعارة في أمثال هذه الألفاظ.
ومن الجائز أن يمتد القياس إلى أغراض أخرى في المقارنة بين الكلمات واللغات تحريا لأصولها، أو للعلاقة معانيها ومعيشة أبنائها، ولكن البحث على هذا المثال ضرورة لا محيد عنها في اللغات التعبيرية، واللغة العربية في مقدمتها، فإنه بحث يجمع بين أغراض التاريخ؛وأغراض البيان؛ وأغراض الدراسات النفسية والاجتماعية،ولا نحسب أن في اللغة العربية كلمة يطول الخلاف عليها مع الاحتكام بها على هذا النحو إلى أصولها ودواعيها من حياة الناطقين بالضاد، وأولها كلمات الفصاحة، والبلاغة، والنحو، والصرف ، والإعراب.