من المؤكد أن هناك تغيرًا جذريًّا في نوع العلاقة بين اليهود والنصارى أدى إلى أوضاع مغايرة جدًّا لما كنا نألفه عن العلاقة التقليدية بين الطائفتين! فالتاريخ يخبرنا عن العلاقة شديدة السوء بين اليهود والنصارى منذ قدم الزمن، ولقد استقبل اليهودُ المسيحَ u أسوأ استقبال، واتهموا أمَّه العذراء البتول مريم عليها السلام بالفاحشة، وسعوا لدى أمير القدس الروماني لكي يقتل المسيح u، بل ويعتقد النصارى أن المسيح u قد صُلب وقُتل بالفعل، وإن كنا نحن المسلمين نعتقد اعتقادًا جازمًا أنه لم يُصلب ولم يقتل بل رفعه الله إليه.. قال تعالى: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء: 157]. لكن النصارى يعتقدون في الصلب والقتل، وهذا أدى إلى انحراف عقائدي هائل، وكان من نتيجة هذا الانحراف أن حمَّل النصارى اليهودَ هذا الذنب الضخم، ليس فقط لمن عاصر المسيح u ولكن لكل يهود الدنيا، حتى صار اليهود يعرفون في التراث المسيحي "بالأمة الملعونة"، وحتى صار النصارى يتوارثون في كل وقتٍ كراهية اليهود. وكلنا يعلم ما طلبه أسقف القدس النصراني من عمر بن الخطاب t عند إجراء الصلح مع المسلمين من اشتراط ألاَّ يسكن اليهود مدينة القدس المقدسة بحال من الأحوال. هذا كله تاريخ معروف، والكراهية متبادلة بين الطرفين، وقد نقل الله U هذه الصورة لنا في قوله: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ} [البقرة: 113]. ثم إذا بالأيام تدور، والأحداث تتغير، فنرى اليوم توافقًا عجيبًا بين الطرفين، واستماتة نصرانية في الدفاع عن اليهود، أو إن شئت فقل: الدفاع عن أباطيل اليهود، ونرى زيارات دينية متبادلة، وتأييد كنسيّ لكثير من قضايا اليهود، وخاصة اليهود الذين يعيشون في فلسطين. فما سرُّ هذا التحوُّل العجيب؟! إننا لن نفهم هذا التحول إلا بالعودة إلى التاريخ، فنعيد قراءة بعض الأحداث قراءة متأنية، تبصرنا في النهاية بتفسير الأوضاع الجديدة الني نعاصرها الآن. لقد عاش اليهود كل حياتهم في سلاسل مختلفة من الاضطهاد من الأوربيين؛ فالدولة الرومانية الوثنية اجتاحت القدس سنة 70م، وقامت بمذبحة بشعة في اليهود على يد القائد الروماني الشهير تيتوس، وتكررت المأساة في سنة 132م على يد القائد الروماني إيليا هدريان.. ثم عندما تنصَّرت الدولة الرومانية سنة 324م بعد تنصُّر قيصرها قسطنطين، تحولت أوربا كلها إلى النصرانية، وبدأت سلاسل جديدة من الاضطهاد لليهود، ولكن بتوجُّه أيدلوجي جديد، وهو اضطهاد النصارى للأمة الملعونة التي قتلت المسيح u في اعتقادهم، واستمر هذا الاضطهاد في معظم فترات التاريخ الأوربي القديم. ولقد كان يعلو أحيانًا ويفتر أحيانًا لكن دائمًا موجود، وكان النصارى في كل ذلك يُسمُّون اليهود بالكفار. ثم حدث تطور كبير في هذا الاضطهاد سنة 1290م، حيث أمر ملك إنجلترا "إدوارد الأول" بطرد كل اليهود (الكفار) من سائر بريطانيا، وزادت حدة الاضطهاد في أوربا، وتفاقمت في سنة 1306م عندما أعلن فيليب ملك فرنسا أنه على كل يهود فرنسا أن يختاروا بين ثلاث: إما الخروج النهائي من فرنسا، وإما القتل، وإما التنصُّر! فعندها انقسم اليهود إلى فريقين، توجه أحدهما إلى الأندلس (إسبانيا) حيث كان المسلمون يحكمون هذه البلاد، وقد اشتهر المسلمون على مر عصورهم بالحرية الدينية، والسماح للأقليات المختلفة بممارسة شعائرهم. أما الفريق اليهودي الآخر فقد تحول إلى النصرانية ظاهريًّا، كما أمرهم بذلك حاخام اليهود في فرنسا، وظل هذا الفريق الخطير متخفيًا في رداء النصرانية، بل إن منهم من دخل البلاط الكنسي، وترقى في المناصب الدينية النصرانية، وصاروا من أئمة النصارى في فرنسا وأوربا! ثم قام اليهود في القرن السادس عشر الميلادي بحركة جريئة جدًّا تهدف إلى إحداث تغيير استراتيجي خطير على الساحة الأوربية بل والعالمية، وكانت هذه الحركة تهدف إلى تحريف النصرانية (المحرفة أصلاً) إلى دين جديد يخدم مصالح اليهود، ولكن باسم النصرانية الجديدة. ومن هنا كان ظهور مذهب "البروتستانت"، أي الاحتجاج أو الاعتراض!! لقد كان القس الألماني "مارتن لوثر" مدفوعًا بقوة من اليهود بالثورة على الكنيسة الكاثوليكية المسيطرة على غرب أوربا، وكانت الشعارات المرفوعة هي شعارات الإصلاح، وقام يناصره عامة القساوسة اليهود الذين سيطروا على أكثر من مكان حساس في الكنائس الأوربية، وأظهر "مارتن لوثر" حبه الجارف لليهود، فألف كتابًا سنة 1523م جعل عنوانه "المسيح ولد يهوديًّا"!! ومع أن مارتن لوثر نفسه لم يكن من أصول يهودية (غالبًا لكي لا يثير الشبهة) إلا أنه كتب كلامًا أكثر تعاطفًا مع اليهود من اليهود أنفسهم!! فقد قال على سبيل المثال: "إن الروح القدس (يقصد الله) شاءت أن تُنزِل كل أسفار الكتاب المقدس عن طريق اليهود وحدهم، إن اليهود هم أبناء الرب، ونحن الضيوف الغرباء، وعلينا نحن النصارى أن نرضى بأن نكون كالكلاب التي تأكل من فتات مائدة أسيادها" [1]. وبهذه الكلمات وأمثالها أثَّر مارتن لوثر في مشاعر الأوربيين تأثيرًا ظل مستمرًّا عدة قرون، بل وإلى زماننا الآن. غير أن أثر مارتن لوثر لم يقف عند حد تعظيم قدر اليهود وتقديسهم، بل إن الأمر فاق ذلك عندما تدخَّل معه القساوسة اليهود ليزرعوا أفكارًا أخرى جديدة تؤيد أكثر وأكثر من مواقف اليهود، ولعل من أهم هذه الأفكار فكرتين كانتا لهما الأثر المباشر في سياسة الأوربيين بعد ذلك، وخاصة البروتستانت. أما الفكرة الأولى فهي أن العهد الجديد من الإنجيل قد تعرض لتحريف شديد (وهذا صحيح)؛ ولذلك يجب نبذُه والاعتماد فقط على العهد القديم الذي لم يُحرَّف (وهذا غير صحيح فقد حُرِّف هو الآخر تحريفًا كبيرًا). والعهد القديم هو التوراة! وبذلك أصبح الكتاب المقدس عند البروتستانت (النصارى الجدد) هو التوراة اليهودية!! وأما الفكرة الثانية فقد زرعوها زرعًا في الديانة الجديدة، وهي أنه لكي يعود المسيح u إلى الدنيا لا بد من إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، وبغير هذا الوطن لن يعود المسيح. وبذلك أصبح لزامًا على النصارى المحبين للمسيح u أن يساعدوا اليهود في إقامة وطن قومي لهم في فلسطين، بل وأصبح ذلك جزءًا من العقيدة لا يمكن التنازل عنه، وأكثر من ذلك أن اليهود أخذوا عند البروتستانت قدسيَّة خاصة، جعلتهم يغضُّون الطرف تمامًا عن أي خطأ لهم أو مخالفة، بل يعتبرون مجرد نقدهم هو نقد للربِّ ذاته!! ولا شك أن الكنيسة الكاثوليكية رفضت هذه المبادئ رفضًا قاطعًا، وهذا الذي رأيناه من مارتن لوثر كان يعتبر ثورة حقيقية على البابا والنظام الكاثوليكي، ومن ثَمَّ فقد دارت حروب مباشرة بين البابا ومارتن لوثر، وانقسمت أوربا نتيجة هذا الصراع إلى طائفتين؛ طائفة مؤيدة للبابا الكاثوليكي، وتزعمت هذه الطائفة فرنسا، وهي أكبر دولة كاثوليكية في العالم، وحليفة البابا على طول الخط، وكان معها أيضًا إسبانيا وإيطاليا. وأما الطائفة الثانية فهي الطائفة التي كانت تعادي البابا قبل ذلك سياسيًّا وعسكريًّا، وعلى رأسها ألمانيا وإنجلترا، وهذه الطائفية تمسكت برأي مارتن لوثر على أساس أنه الاتجاه المعاكس للبابا، بصرف النظر عن كونه مقنعًا أو غير مقنع! وفي سنة 1538م أعلن هنري الثامن ملك إنجلترا الانفصال الرسمي عن كنيسة روما الكاثوليكية، وتبنَّى بوضوح المذهب البروتستانتي، بل وفتح باب إنجلترا من جديد لدخول اليهود بعد أن كان مغلقًا من أيام إدوارد الأول سنة 1290م. وهكذا صارت إنجلترا بروتستانتية مؤيدة لليهود بكل قوتها كجزءٍ من دينها. ومع أن مارتن لوثر قد تبرأ بعد ذلك من مدحه لليهود، وكتب كتابًا عام 1544م بعنوان "ما يتعلق باليهود وأكاذيبهم"، إلا أن فكره الأول انتشر في كثير من البلدان الأوربية، وبدأ هذا الفكر يظهر في كتابات وأقوال المفكرين والفلاسفة والعلماء ممن اعتنقوا مذهب البروتستانت؛ فعلى سبيل المثال يقول إسحاق نيوتن العالم الإنجليزي الشهير (1642- 1727م) في كتابه (ملاحظات حول نبوءات دانيال ورؤيا القديس يوحنا): "إن اليهود سيعودون إلى وطنهم، لا أدري كيف سيتم ذلك؟ ولنترك الزمن يفسِّره". ويصف الفيلسوف الألماني (كانط) اليهود بأنهم "الفلسطينيون الذين يعيشون بيننا". تزامنت هذه الأحداث أيضًا مع اكتشاف أمريكا، ومن ثَمَّ فإنه عندما زادت وتيرة الاضطهاد الكاثوليكي للبروتستانت في أوربا، فإن هؤلاء البروتستانت أصحاب الفكر اليهودي اتجهوا إلى البلاد الجديدة (أمريكا)، وبالتالي -ومع مرور الوقت- صارت نسبة البروتستانت أعلى من نسبة الأسبان الكاثوليك الذي قَدِموا قبلهم. ثم حدث تطور خطير يصبّ في مصالح المذهب البروتستانتي، وهو قيام الثورة الفرنسية سنة 1789م، التي ثارت على كل التقاليد القديمة في فرنسا، ولم تكتفِ بإزالة الحكم الملكي، بل أزالت كل ما يمتُّ له بصلة. ومن ثَمَّ أعلنت اعتراضها الواضح على المذهب الكاثوليكي، وأنها تتبنَّى المذهب البروتستانتي، مع أنها في الأصل ثورة علمانية لا تؤمن بالدين أصلاً، ولكن حدث هذا كنوع من الاعتراض على كل ما هو قديم! بل إن نابليون بونابرت في سنة 1799م عندما غزا فلسطين، أعلن من هناك نداءً إلى كل يهود العالم ليأتوا إلى فلسطين لإقامة وطن قومي لهم، وذلك كجزء من البروتستانتية التي يعتنقها، ولكن محاولته هذه فشلت؛ لأن الدولة العثمانية بالتعاون مع إنجلترا وروسيا أخرجوه من فلسطين. ولكن هذا التحوُّل في منهج الحكم في فرنسا كان ظاهريًّا فقط ومؤقتًا، وظلت فرنسا كاثوليكية في المعظم. وهكذا ظهرت دعاوى مختلفة بعد ذلك في العالم البروتستانتي تنادي بتقديس اليهود، وإنشاء وطن قومي لهم في فلسطين، ولم تكن أمريكا بعيدة عن هذه المطالب، بل تقدَّم على سبيل المثال "ويليام بلاكستون" -وهو أحد أبرز هؤلاء البروتستانت في أمريكا- يطالب الرئيس الأمريكي بنيامين هاريسون سنة 1891م بإطلاق حركة العودة اليهودية إلى فلسطين، وقال في طلبه: "طبقًا لتوزيع الرب أرضه على الأمم، تظل فلسطين وطن اليهود، وتظل ملكًا لهم غير قابل للتصرُّف". وهكذا أظهر ما يسمى بالصهيونية المسيحية، وهي دعوة نصرانية لعودة اليهود إلى فلسطين (جبل صهيون). ولاحظ أن هذه الدعوة لعودة اليهود إلى فلسطين كانت قبل دعوة (هرتزل) نفسه بتأسيس وطن لليهود في فلسطين (كانت دعوة هرتزل في سنة 1897م). وَلْنُعِدِ الآن النظر إلى الأمور بعد هذه الخلفية التاريخية.. إن البروتستانت في أمريكا يشكلون أكبر الطوائف المسيحية (أكثر من 65% من النصارى بينما الكاثوليك يمثلون 30% منهم)، وهم كذلك في إنجلترا (البروتستانت 76% من النصارى، والكاثوليك 24% منهم)، بينما تتعادل نسبتهم في ألمانيا مع الكاثوليك، وتبقى فرنسا وإيطاليا وإسبانيا كاثوليكية بأغلبية ساحقة. ومع ذلك فنتيجة الأوضاع الجديدة في العالم وعلوّ نجم إنجلترا ثم أمريكا، وازدياد التغلغل اليهودي في معظم الأنظمة السياسية والاقتصادية في العالم، اضطر البابا الكاثوليكي في سنة 1966م إلى إعلان خطير غير مسبوق في تاريخ الكاثوليكية، وهو تبرئة اليهود من دم المسيح u!! وهو وإن لم يكن تأييدًا واضحًا لليهود كما يفعل البروتستانت، إلا أنه تراجع كبير عن عقائد استمرت مئات السنوات. وأنا أعتقد أنها موازنات سياسية وليست عقيدة دينية بالمرة؛ فالكاثوليك ما زالوا يتوجسون من اليهود وتاريخهم. من كل ما سبق يظهر لنا أن حب الأمريكان والإنجليز لليهود، ودفاعهم عن قضاياهم، وزرع إنجلترا لليهود في داخل فلسطين، واستكمال أمريكا لمسيرة إنجلترا مع اليهود، واتحاد أمريكا وإنجلترا بشكل مستمر، وغير ذلك من إشارات.. كل ذلك يرجع إلى أن عقيدة الشعبين الأمريكي والإنجليزي تُرسِّخ توقير اليهود في القلوب، وتقدِّم إنشاء وطن قومي لهم في فلسطين على مصالحهم الخاصة، ويرون أن المسيح u لن يعود إلى الأرض إلا بعد هذه الخطوة؛ ولذلك فليس هناك أي احتمال يبدو في الأفق أن تتنازل هذه الشعوب عن مساعدة اليهود إلا إذا حدث عندها تغيُّر عقائدي جديد!! هذا هو الموقف عند الشعوب، فهل يختلف الرؤساء والحكام عن ذلك، أم يسيرون في نفس الاتجاه؟! هذا موضوع في غاية الأهمية؛ ولذلك سنفرد له مقالاً خاصًّا. ونسأل الله أن يعز الإسلام والمسلمين! |