بسم الله الرحمن الرحيم
مواقف في حياة الرسول
إن حياةسيدنا محمد علية الصلاة والسلام صورة للنفس البشرية الكاملة وما يعتريها من سراء وضراء وفرج وضيق، وهي سجل لتاريخ طويل من مواطن الكفاح والجهاد ومواقف التعبئة والمقاومة والملاينة والمحاسنة. فقد اجتمع فيها ما يصلح دستوراً للإنسانية ومرآة للبشرية في شتى مراحلها.
لقد سئلت عن خلقه أم المؤمنين عائشة فقالت: كان خلقه القرآن.. وحسبنا ما وصفه الله وأصحابه وهم أتباع هديه وعشاق رسالته إذ يقول جل وعلا: محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل (29) سورة الفتح.
حلم وعفو وصبر
وأما سرّ نجاح دعوته وإشراق شمس رسالته فهو الحلم والاحتمال والصبر والعفو مع المقدرة، وهذا كله من أدب الله تعالى لحبيبه.. حيث قال سبحانه وتعالى: خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين (199) سورة الأعراف.. وقال: واصبر على ما أصابك (17) سورة لقمان.. وقال: فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل (35) سورة الأحقاف. وقال: وليعفوا وليصفحوا (22) سورة النور. وقال: ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور (43) سورة الشورى.. وهو {لا يزيد مع كثرة الأذى إلا صبراً وعلى إسراف الجاهل إلا حلماً.. روى عن النبي { لما كسرت رباعيته وشج وجهه يوم أحد شق ذلك على أصحابه شقاً شديداً وقالوا لو دعوت عليهم فقال النبي {إني لم أبعث لعاناً ولكن بُعثت داعياً رحمة .. "اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون". وجاء بن سمنة اليهودي يتقاضاه ديناً فأخذ بمجامع ردائه فهمَّ عمر بن الخطاب بقتله فقال رسول الله {: أنا وهو كنا إلى غير هذا منك أحوج يا عمر، تأمرني بحسن الأداء وتأمره بحسن التقاضي، ثم قال لقد بقي من أجله ثلاثة أيام وأمر عمر أن يعطيه ماله ويزيده عشرين صاعاً، فكان ذلك سبب إسلام بن سمنة.قالت عائشة ما خُير رسول الله في أمرين إلا اختار أيسرهما، إنما تلك هي الأخلاق التي تبنى الأمم وتقود المستكبرين وحسبنا بالرسول الكريم حرصاً على الوحدة ودعماً للجماعة أن يكرم أبا سفيان رأس قريش وعدوه الألد ومجمع الأحزاب عليه وقاتل عمه الحبيب حمزة بما لم يكرم به أحد يوم فتح مكة وكان يمكنه أن يدفنه حياً لو أراد شفاء نفسه، ولكن جعل داره كالكعبة من دخلها فهو آمن، فأذهب بذلك ضغينة عميقة الجذور وأحنة تذيب العدو، وضمن بدخوله طواعية بني أمية.
وأما خلقه من حيث الجود والكرم والشجاعة والسماحة فكان { في هذه الأخلاق لا يُبارى.
شجاعته
والشجاعة في الحق من أسمى الفضائل التي تجعل من شخصية صاحبها مثلاً مرموقاً بالاحترام والإجلال والإعظام.
لقد وقف { وحيداً ماله سوى الأمل في ربه الذي كان يذهب لمناجاته في غار حراء وليس وراءه من الدنيا إلا زوجة تخفف عنه ما يشعر به من تنافر بين العالم الذي يعيش فيه والعالم الذي هو مقبل عليه، وبإضافة الشجاعة الكاملة إلى خلق العفو والكرم الكاملين نكون قد أشرفنا على تمام وكمال الشخصية.
حياؤه
وأما حياؤه { فقد قال الله فيه: إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحي منكم (53) سورة الأحزاب.. فكان لا يشاهد أحدا بما يكره حياء وكرم نفس، عن عائشة تقول: "إذا كره شيئاً عرفناه في وجهه، وكان إذا بلغه عن أحد ما يكره لم يقل مابال فلان، وكان يقول ما بال أقوام". وعنها أيضاً: "لم يكن النبي فاحشاً ولا متفاحشاً ولا صخاباً ولا يجزي بالسيئة السيئة". ويكفي قولها في شأنه: "ما رأي منّي ولا رأيت منه".
حسن العشرة
وأما حسن العشرة فكان أوسع الناس صدراً وأصدقهم لهجة وألينهم عريكة، وأكرمهم عشرة، وكان يبدأ من لقيه بالسلام، ويبدأ أصحابه بالمصافحة ويدعوهم بأحب أسمائهم ولا يقطع على أحد حديثه، وكان أكثر الناس تبسماً، وأطيبهم نفساً، عن أنس قال: "خدمت النبي فما قال لي لشئ فعلته، لم فعلته".
تواضعه
وأما تواضعه فقد تواترت به الأخبار، وانظر معي، لقد دخل عليه وفد وعاملوه معاملة الملوك والرؤساء فقالوا له: "أبيت اللعن. وهذه التحية خاصة بالملوك والعظماء، فقال الرسول لست ملكاً، أنا محمد بن عبدالله. قالوا: لا نسميك باسمك قال: أنا أبو القاسم، قالوا: إنا خبئنا لك خبئاً فما هو؟ فقال الرسول لست كاهناً، إن الكاهن والتكهن والكهانة في النار. عند ذلك أسلم الوفد ونهاهم الرسول عن لبس الحرير والتختم بالذهب، وعن أنس رضي الله عنه أن امرأة كان في عقلها، أي جنون، جاءته قالت إن لي إليك حاجة قال: نعم يا أم فلان فجلست في الطريق فجلس إليها.
عدله
وأما عدله فكان بالمكان الذي لا يطاول، وكان { أصدق الناس لهجة. وكان وقته مقسماً بالعدل.. جزء لعبادة ربه، وجزء لبدنه وراحته، وهذا الجزء بينه وبين الناس شطر في حاجات المحتاجين، وكان لا يأخذ أحدا بكره.
ومن تعاليمه في تأكيد العدل والرفق حتى في سجل الحيوان فقد علم أصحابه أن أمرأة كتب الله عليها النار بسبب هرة حبستها حتى ماتت، وأن رجلاً نزل بئراً وسقى كلباً يموت عطشاً فجعله الله في عداد أهل الجنة.
زهده
وأما زهده { فعن عائشة رضي الله عنها: "ماترك ديناراً، ما ترك إلا سلاحه" وهذا امتداد لقوله: "نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة".
وعن عائشة رضي الله عنها: لقد مات ومافي بيتي شئ يأكله ذو كبد إلا شطر شعيرة. وقال {، إني عرض علي أن يُجعل لي بطحاء مكة ذهباً فقلت: "لا ياربي أجوع يوماً فأصبر، وأشبع يوماً فأشكر".
ثباته وصموده
وأما ثباته على المبدأ والصمود أمام العدو فقد وقف وحيداً أمام كفار قريش ليس له شئ سوى الأمل في الله، لقد أعلن لعمه بكلمته التي تعتبر هدياً ونبراساً للمجاهدين الصادقين: "والله يا عمي لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته أبداً حتى يظهره الله أو أهلك دونه".
ثم عرضوا عليه بعد ذلك أن يشاركهم في عبادتهم ويشاركون في عبادته فنزل قوله تعالى: قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد ولا أنا عابد ما عبدتم... إلى قوله: لكم دينكم ولي دين سورة الكافرون.، ثم طلبوا منه أن ينزع من القرآن ما فيه من ذم الأوثان وما يخصهم من الوعيد أو يأتي بقرآن غيره، فأنزل الله جواباً لهم: قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي.. (15) سورة يونس.
فيا أمة الإسلام.. كل أمة تريد أن تشق طريقها إلى المجد وتسلك سبيل السعادة، فلا بد أن تتذرع بالإيمان والثقة به، وتوطيد النفس على الثبات في وقت الشدائد والصبر على الملمات، فإن الصبر عنوان الإيمان. واعلموا أن كثرة العدد ووفرة العدد ليست كافية في تحقيق النصر مالم تؤازرها قوة الإرادة وتوحيد القيادة وصدق العزيمة وحسن اليقين والتوكل على الله القوي المتين، تلك هي القوة المعنوية التي تكفل النجاح وتحقق النصر وتهزم العدو، واعلموا أن الله معكم وأنه غالب على أمره ولن يمكن الأعداء منكم أو ممن ملأ نفوسهم بالإيمان: إن الله يدافع عن الذين آمنوا، إن الله لا يحب كل خوان كفور.(38)
سورةالحج.