نعود بكم اليوم مئة وخمسين سنة إلى الوراء. نعود إلى إحدى إمارات الدولة العثمانية، حيث ولد شيخنا، في عام 1862، في عائلة فقيرة. توفّي والده عندما كان بطلا ابن ستة عشر ربيعا، فأوكلت ترتبيته لأحد شيوخ الدين في بلده. فنشأ على الدين والشجاعة. كان من التزامه، أنه حفظ القرآن، وكان يختمه كل سبعة أيام. حتى في أشد الظروف وأقساها لم يترك شيخنا الجليل هذه العادة. وكان رحمه الله لا ينام من الليل أكثر من ثلاث ساعات، ثم يقوم بعدها، فيتوضئ، ويمسك القرآن، ويظل يتلوه حتى الفجر.
أما شجاعته، فكانت مضرب الأمثال. حيث خرج مرة مع قافلة تجارية إلى السودان، وكان في طريق القوافل أسد يخشاه الناس، فكانوا يلقون إليه كل مرة بأهزل ناقلة ليأكلها الأسد فلا يهاجم القافلة. لكن بطلنا أبى أن يدفع "الجزية" لحيوان، فحمل بندقيته، وامتطى جواده، ورجع برأس الأسد. ثم أوكل إليه وهو في العشرينات من عمره، مهمة الإصلاح بين القبائل. وفي الثلاثينات من عمره، حارب الفرنسيين، أما في الأربعينات فحارب الإنجليز، وحارب وهو في الخمسينات من عمره الإيطاليين، وكانت الستينات من عمره هي قمة جهاده، حيث قاد الجهاد المسلح ضد الإيطاليين، إلى أن قبض عليه وأعدم أمام أهل بلده في عام 1931 وهو في السبعينات.
كان رحمه الله عال الخلق، رصين المنطق، متزن الكلام، قادر على جذب من يستمع إليه. وكانت هذه الصفات القيادية هي التي ساعدته على التأليف بين القبال، وتجييش الجيوش، لنصرة دين الحق ودفع العدوان عن الوطن.
وتفاديا لقوة ضرباته، عرضت عليه إيطاليا الكثير من الأموال والمناصب، أملا في أن يضع سلاحه ويخضع لهم. لكن رفضه كان الجواب الدائم، فكان يقول: "إنني لم أكن لقمة طائبة يسهل بلعها على من يريد، ومهما حاول أحد أن يغير من عقيدتي ورأي واتجاهي فإن الله سيخيّبه". كما عرضت عليه إيطاليا أن يغادر بلده، ويعيش في بلد قريب مع راتب دائم يكفيه، لكنه أجاب بكل حزم: "لا أغادر هذا الوطن حتى ألاقي وجه ربي. والموت أقرب إلي من كل شيء، فإني أترقبه بالدقيقة".
كان رحمه الله شديد الثقة بربه، راضيا بقضاءه، متوكل عليه حق التوكل. وكان يرى الجهاد واجبا عليه وعلى كل مسلم قادر، فالوطن تحت العدوان، ودفع العدوان واجب على أهل الوطن. فعندما سأله قائد قوات العدو عن سبب مقاومته، وعن النتائج التي كان يرجوها من هذه المقاومة، أجاب: أنه حارب من أجل دينه ووطنه، وأنه ما كان يسعى لشيء سوى طردهم من بلاده لأنهم مغتصبون، أما الحرب فهي فرض عليهم وما النصر إلا من عند الله. وكان يرفض المفاوضات مع المحتل، ويقول: "نحن لا حاجة لنا إلا مقاتلة أعداء الله والوطن". وكان يدعوا الله دوما أن يرزقه الشهادة في سبيل قضيته، وهذا ما ناله رحمه الله.
بهذه الأخلاق، نال بطلنا إعجاب الجميع حتى أعداءه. فيقول عنه قائد قوات العدو: "وعندما حضر أمام مكتبي تهيأ لي أن أرى فيه شخصية آلاف المرابطين الذين التقيت بهم أثناء قيامي بالحروب الصحراوية. يداه مكبلتان بالسلاسل, رغم الكسور والجروح التي أصيب بها أثناء المعركة, وكان وجهه مضغوطا لأنه كان مغطيا رأسه (بالجرد) ويجر نفسه بصعوبة نظراً لتعبه أثناء السفر بالبحر, وبالإجمال يخيل لي أن الذي يقف أمامي رجل ليس كالرجال له منظره وهيبته رغم أنه يشعر بمرارة الأسر, ها هو واقف أمام مكتبي نسأله ويجيب بصوت هادئ وواضح. وعندما وقف ليتهيأ للإنصراف كان جبينه وضاء كأن هالة من نور تحيط به فارتعش قلبي من جلالة الموقف أنا الذي خاض معارك الحروب العالمية والصحراوية ولقبت بأسد الصحراء. ورغم هذا فقد كانت شفتاي ترتعشان ولم أستطع أن أنطق بحرف واحد, فانهيت المقابلة وأمرت بإرجاعه إلى السجن لتقديمه إلى المحاكمة في المساء, وعند وقوفه حاول أن يمد يده لمصافحتي ولكنه لم يتمكن لأن يدين كانت مكبلة بالحديد."
وفي مواجهة الفتن الداخلية التي كانت تعصف بالمجاهدين، يظهر حزم شيخنا الجليل ومدى إيمانه بقضيته. فعندما تحرّكت جماعات من أهل بلده تدعوه للاستسلام للإيطاليين حتى تتوقف الحرب، أخرج البطل الشهيد مصحفه، وأقسم أنه لن يتوقف عن مقاتلة الغزاة المحتلين حتى لو قاتلهم لوحده إلى أن يتحقق النصر أو أن يسقط شهيدا في سبيل الله. فاجتمع الناس من حوله من جديد، واستمرت ضربات المقاومة الموجعة تنهك الجيش الإيطالي الذي ظن أنه ذاهب في رحلة نزهة وأن بلاد المسلمين ستكون لقمة سائغة له.
لقد هز خبر إعدامه واستشهاده الوطن الإسلامي بأسره. فلم يكن شيخنا الجليل بطلا قوميا، وإنما كان مجاهدا ضد أعداء الله، يُقْتَدَى بأثره في جميع البلاد الإسلامية. وجادت قرائح الشعراء في رثاءه. وهذه مختارات من قصائد رثاءه:
قال فيه أمير الشعراء أحمد شوقي:
خُيَّرْتَ فاخترت المبيت على الطوى * * * لم تَبْـِن جـاهاً أو تَلُمَّ ثـراء
أن البطولة أن تـموت من الظما * * * ليس البطـولة أن تعبّ المـاء
أفريقيا مهـد الأسـود و لـحدها * * * ضجت عليك أراجـلاً ونسـاء
والمسلمون على اختلاف ديارهم * * * لا يملكون مع المصاب عزاء
وقال فيه شاعر القطرين خليل مطران:
أَبَيْتَ والسيفُ يعلو الرأسَ تسليماً * * * وَجُدْتَ بالروح جود الحر إن ضيما
تُذَكِّرُ العـرب والأحـداث مُنْسِيَةٌ * * * ما كان، إذ ملكوا الدنيـا لهم خيما
لله يا عمـر المختـار حكمتـه * * * في أن تلاقي ما لاقيـت مظلـوما
أما أمير القوافي معروف الرصافي فقد قال فيه:
ألا انهض وشمر أيها الشرق للحـرب * * * وقبل غرار السيف واسل هوى الكتـب
ولا تغتـرر أن قيـل عصـر تـمـدن * * * فإن الذي قـالوه من أكـذب الكـذب
ألست تراهم بين مصـر وتـونــس * * * أبـاحوا حمى الإسلام بالقتل والنهـب
وما يؤخذ الطليان بالذنب وحدهم ولكن * * * جمـيـع الـغـرب يـؤخـذ بالذنـب
ونختم بأبيات شاعر الشباب محمود بورقيبة:
مضى عمـر المختـار لله رافـلاً * * * بثـوبٍ نقي حيك من خالـص الطهـر
مضى عمـر المختـار لله بعدما * * * قضى الواجب الأسمى بأعلى ذرى الفخر
مضى عمـر المختـار لله هـانئاً * * * سعيـداً شهيـداً وانطوت صفحة العمر
مـخلفـةً للعـالـميـن مـآثـراً * * * هي الغـرر البيضـاء في جبهة الدهـر
ومن دمـه المسفـوك سطر آيـة * * * سيحـفظـهـا التاريخ بالحمد والشكر
ذلك هو عمر المختار، الشيخ الجليل الذي دفن جسده تحت الثرى، لكنّ ذكراه لم تدفن. سطر بدمه أورع قصص البطولة، فصار علما من أعلام الجهاد، وقدوة لمن أراد أن يعيش عزيزا في زمن الخضوع.
انتهت رحلتنا لهذا اليوم، بعد أن تعلمنا درسا في الشجاعة من شيخ جليل.