المعامل الخفية نظرت الأم إلى إبنها وفي شفتيها بسمة حنان وقالت :
- هل تستطيع أن ترى بلاد الهند من خلال سمّ الخياط يا "علي" ؟
تعجب الابن من قولها ، لأنه لم يخطر بباله قط رؤية بلاد الهند من خلال سمّ الخياط قبل اليوم .
أسرع بإحضار إبرة من إبر والدته ، وجلس ينظر من خلال سمه إلى الآفاق البعيدة .
كانت الأم قد عادت إلى مواصلة عملها في البيت ولم تشعر بشيء من فعل ابنها إلا حين نبهها صوته متسائلا وهو ينظر من خلال السم :
- أين بلاد الهند يا أمي ، إنني لا أستطيع أن أراها
حينما رأت المرأة منظر إبنها والإبرة في يده ، لم تستطع أن تتمالك نفسها فأغرقت في الضحك :
- ألم ترها بعد يا حبيبي ويا فلذة كبدي؟
- هل رأيتيها أنت يا أمي ؟
- نعم .. ولكنه مثل يضرب للعقلاء الذين هم بعيدو النظر .
- لم أفهم شيئا .
- لا تقلق نفسك ستفهمه يوماً حينما تكبر .
- حينما أكبر .. حينما أكبر ..
لقد ضجر، لأنه يريد أن يكبر في الحال ، يريد أن يتعلم كل شئ منذ الآن. ولكن أين له ما يريد .
كان في صباح كل يوم - بعد أن يستيقظ من نومه - يقف بجانب الحائط ويبدأ بقياس نفسه.
- أصبحت أطول من العام بقليل ، إذا سار الأمر على هذا المنوال فسأبقى طفلاً لسنين كثيرة .
- متى سأكبر يا أمي ؟
- حينما يحين وقته .
- هل أستيقظ ذات يوم وأرى نفسي كبرت بالمرة؟!
ضحكت أمه لكلامه .
- وهل هذا ممكن يا إبني ؟ بل رويدا رويدا ودون أن تشعر .
ضاق صدر(علي) وقام ليسقي السنادين المتراصة في الشرفة ، لينسي به هموم نفسه.
استهوته ألوان الزهور الجميلة ، وارتاح إلى شم روائحها الشذية العبقة ولكن كيف تستطيع هذه الزهور أن تكتسب كل هذه الألوان والروائح ؟
ترى هل هناك شركات تعمل لإنتاج الروائح تحت الترب ؟
وهل هناك معامل تـنسج أوراق الورود الجميلة ..؟
لم يستطيع صبرا . أخذ إحدى هذه السنادين وأفرغ ما فيها من التراب ، وبدأ يـبحث عن بغيته.
رأته أمه ، فتحيرت من فعله ، وقالت في نفسها :
- ترى ماذا يجول بخاطر هذا الصبي؟
- هل تبحث عن شئ يا (علي) ؟ وما هو ؟
أجاب بسرعة :
- عن معامل النسيج . أمر عجيب يا أمي ، ما هو هذا الشيء الذي يعطي هذه الورود كل هذه الألوان والروائح ، لقد حرت في البحث عنه.
بدت علامات الغضب ترتسم على محياها ، فنظرت إليه برهة وكادت أن تصرخ في وجهه ولكنها أمسكت نفسها وكتمت غيظها ومشت إليه بهدوء وقالت:
- يظهر أن حب استطلاعك سيجعل منك رجل علم كبير .. هل وجدت المعمل في السندانة ؟
طأطأ رأسه :
- لا لم أجده .. لأنني لم أر بلاد الهند من خلال سمّ الخياط سأنتظر إلى أن أكبر.
- كلا .. لن تجده حتى ولو كبرت ، ذلك لأن المعمل معمل مخفي ولا يُرى .. فهو يعمل بالأمر الآلهي "كن" فيكون ورودا جميلة ذات روائح شذية .
فكر(علي) قليلا وأخذ يفرك رأسه ويغمض عينيه ثم خفض رأسه متحذلقاً.
- و الآن فهمت يا أمي .. إن كل شئ يعمل بإرادة الله سبحانه وتعالى ، فهو الذي خلقنا وهو الذي خلق الأزهار والأثمار والأشجار وهو الذي خولنا حق التصرف فيها كما يشاء هو، لا كما نحن نشاء .. أليس كذلك؟
- نعم هو كذلك يا ابني .
ثم أخذته الأم بين أحضانها وتعانقا طويلا وهو يقول بثقة فطرية راسخة:
- كم هو رائع! لقد تعلمت هذا الآن ولست بحاجة إلى أن أكبر..
وكم كان علي فرحا ومسرورا برؤية أمه وهي سعيدة!