الانحراف هو الخروج عن الخطّ والميلان عنه .
فإذا خرج السائق عن خطّ السير نقول إنّه انحرف عن الطريق .
وإذا سار النهرُ باتجاه آخر غير مجراه الرئيس ، نقول إنّ النهر انحرف عن مجراه .
وإذا خرجت المركبة الفضائية عن مدارها ، قلنا إنّ المركبة انحرفت عن المدار .
وإذا خرج المسلمُ عن ضوابط الدين وقواعد الشريعة ، نقول عنه كما نقول عن السائق أو النهر أو المركبة ، إنّه خرج عن خطّ السير أو منهاج الشريعة .
هل خطّ السير قيد ؟
ربّما كان في الظاهر كذلك .
لكنّنا يمكن أن نسمّيه بالقيد الايجابي الذي فيه مصلحة للإنسان المسلم ، أي الذي يحفظ له سلامته البدنية والعقلية والنفسية ، ويحميه من عدوانه على نفسه ، أو عدوان الغير عليه .
الانحراف إذن خروج عن الحدّ .. فهو (شطط) و (شذوذ) و (تطرّف) والقرآن يعبّر عنه تارة بـ (الفسق) وهو خروج كل ذي قشر عن قشره ، فيقال فسقت النواة أي خرجت عن التمرة ، والمراد به اصطلاحاً العصيان وتجاوز حدود الشرع ، فحينما يقال فسق عن أمر ربّه أي خرج عن طاعته .
فـ (الفسق) انحراف .
ويعبّر عنه تارة أخرى بـ (الزيغ) وهو الميل عن المقصد ، أو الميل عن الطريق ، أي الاعوجاج بعد الاستقامة .
فـ (الزيغ) انحراف .
ويعبّر عنه ثالثة بـ (الضلال) وضلَّ يعني تاه .
فـ (الضلال) انحراف أيضاً .
هناك إذن خط سير لكلّ شيء ، وهو ما يعبّر عنه القرآن بكلمة (الهُدى) : (الذي أعطى كلّ شيء خلقه ثمّ هدى )(1) ، (الذي خلق فسوّى * والذي قدّر فهدى )(2) وكما للسير أو المرور في الطريق قواعده وقوانينه التي تحمي السائق والمارّة من المخاطر ، فكذلك لكلّ مخلوق وكائن حيّ قواعد وقوانين تنظّم له حياته .
ماذا بعدَ الانحراف ؟
إذا ازداد الانحراف أو تُرك من غير علاج ، فلم يثب المنحرف إلى رشده ، ولم يرجع إلى خط السير فإن انحرافه سيقوده إلى (الضياع) . فالانحراف مقدمة أو خطوة على طريق الضياع .
هل حصل لك أن خرجت عن الطريق العام أو المعتاد ، وسلكت طريقاً لم يسبق أن مشيت فيه ، وإذا بك بعد شوط من المسير في الطريق غير المعهود تجد نفسك قد تهت وضللت الطريق ولا بدّ من أن تسأل العارفين به : أنا تائه أين الطريق ؟!
المزيد من الانحراف يعني ضياعاً ، وإذا كان بإمكان المنحرف أن يؤوب إلى الطريق ، فإنّه كالسائق الذي انتبه سريعاً وعاود السير على الطريق العام ، ليتفادى المخاطر المحتملة قبل أن تودي بحياته .
أمّا المنحرف الذي ترك لنفسه الانزلاق التام ، والانحدار مع الانحراف يأخذه أين يشاء ، فإنّه سوف يضيع ، وليس كلّ مَنْ ضاع عاد إلى مكانه الصحيح ، وليس كلّ مريض تماثل للشفاء ، ولا كلّ منحرف رجع إلى خط الاستقامة .
(1) طه / 50 .
(2) الأعلى / 2 ـ 3 .
ما هي مواصفات المنحرف
هل للشاب المنحرف أو الفتاة المنحرفة صفات معيّنة يُعرفان بها ؟
ليس صعباً عليك أن تميّز المنحرف من غير المنحرف ، إذا عرفت (خط السير) . فأنت تنظر إلى الطريق العام فترى رتل السيارات يسير في طابور أو خط واحد ، أو خطوط محدّدة متوازية ، فإذا شذّت سيارة وخرجت عن الطريق لتسير إلى يمينه أو شماله مبتعدة شيئاً فشيئاً عن الطريق الذي يوصلها إلى هدفها ، فالسير قد ينتهي بها إلى الاتجاه المعاكس .
أنتَ لكَ خط سير أيضاً .. حدّده لك القرآن الكريم في معالمه العامّة ، ورسمته سنّة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بتفاصيله الخاصّة . فإذا كان القرآن قد دعا إلى الوحدة بين المسلمين ، وترى بعض المسلمين يمزّق أوصالهم ويفرّق جمعهم ويبدّد شملهم ، تقول عنه إنّه (منحرف) .
وإذا كانت الجماعة المؤمنةُ تسير في اتجاه معين ، وتتفق على منهاج عمل موحّد ، وابتعدت عنهم لغرور ركبك ، أو هوى استولى عليك ، فإنّك بذلك (تنحرف) عن الجماعة ، وفي الحديث : «إنّما يأكل الذئب من الغنم القاصية» .
والقرآن دعا إلى (الزواج) كطريق شرعي لتلبية نداء الغريزة الجنسية ، وحرّم (الزنا) كطريق منحرف لذلك ، فإذا رأيت مسلماً يزني ، تقول عنه إنّه (منحرف) .
والقرآن نهى عن الغيبة والتجسّس ، فإذا رأيت في المسلمين مَنْ يقترف التجسس والغيبة ، قلت عنه إنّه (منحرف) .
وليس ضرورياً أن يكون الانحراف كلّياً حتى نقول عن شخص ما أ نّه منحرف ، فقد تكون للانحراف بدايات .. فالمغتاب يخرج عن خط السير في هذه النقطة ، والزاني يخرج عن الخط في نقطة معيّنة ، وربّما كان ملتزماً بالسير في غير ذلك .
هل الانحراف كفر ؟
الانحراف ليس كفراً ، وإنّما هو حالة من حالات التجاوز والانعطاف والعصيان والتمرّد والخروج على قواعد السير ، وقد ينتبه المنحرف من (غفلته) ويعود إلى يقظته مجدداً ، ولكنّه إذا تمادى في الانحراف وقع في الكفر .
هل المؤمن ينحرف ؟
نعم ، لكنّ الفرق بينه وبين غيره أ نّه سرعان ما يعود إلى الطريق ، أي قد يغفو أو يسهو أو ينزلق عن الطريق الصحيح لفترة ثمّ ينتبه من غفلته ويثوب لرشده (إنّ الذين اتّقوا إذا مسّهم طائف من الشيطان تذكّروا فإذا هم مبصرون )(1) .
ما هي خطورة الانحراف ؟
تتجلّى خطورة انحراف الشباب في الآثار الذاتية والاجتماعية .
فأنت إذا انحرفت ، أي خرجت عن خط الالتزام ، فإنّك سوف تضع قدمك على أوّل المنزلق ، فإذا لم تتماسك وترجع عن الاسترسال مع خطوات الانحراف اللاّحقة ، قادكَ الانحراف الأوليّ إلى انحراف ثان وثالث وهكذا حتى تكون خطواتك الانحرافية الأخيرة هي (الضياع) .
أمّا أثر انحرافك على الذين من حولك فهو في إساءتك لهم بشكل مباشر أو غير مباشر . فالشاب الذي يغتاب يسيء إلى الذي اغتابه ،
والمتبرّجة تسيء إلى جوّ الحشمة والعفاف ، والسارق يسيء إلى الأمن والأمانة ، والسكّير يسيء إلى نفسه وإلى غيره . وقد تلقى من ضعاف النفوس من الشبان والفتيات مَنْ يستهويهم انحرافك فيجارونك فيه ، وبذلك تكون ضالاًّ مضلاًّ ، فاسداً مفسداً .
هل الانحراف ممكن العلاج ؟
نعم ، فهو بداية المرض وليس المرض في مراحله المتطورة ، أي لم يستفحل بعد ولم يتحول إلى مرض مستعص ، وهذا هو الذي يجعلنا نتحرك سريعاً لمعالجته مخافة أن يتفاقم وتقع مضاعفات خطيرة يصعب علاجها .
(1) الأعراف / 201 .